لفت إنتباهى وأنا أتنقل بين قنوات التلفزيون على إحدى قنواته فى أحد ليالى شهر أغسطس فيلم عن بوخران ، لأعود بالذاكرة إلى مايو عام 1998 هذا العام الذى سمع فيه العالم للمرة الثانية عن بوخران (Bokhran) ، وبوخران هى موقع للتجارب النووية فى ولاية راجاستان فى الهند ، حيث قامت الهند بسلسلة تجاربها النووية والتى تضمنت تفجير خمس قنابل نووية في موقع بوخران للتجارب النووية ، أولها كانت قنبلة اندماجية بينما كان الأربعة الآخرون قنابل انشطارية ، حيث بدأت التجارب التي يُرمز لها باسم «عملية شاكتي» في 11 مايو 1998 بقنبلة اندماجية واحدة بقدرة 45 كيلوطن (كيلوطن هى وحدة تعادل الف طن من مادة التى إن تى ,TNT) ، وهي تماثل أكثر من ضعفي قنبلة هيروشيما ، وقنبلتين انشطاريتين بقوة 10 ، 2 كيلوطن ، وبعدها بيومين في 13 مايو 1998 فجرت الهند قنبلتين انشطاريتين أخريتين بقوة 0.5 ، 0.3 كيلوطن ، وقال “تشيد أمبارام رئيس هيئة الطاقة الذرية الهندية آنذاك ” إن التجارب النووية التي أجرتها الهند في ولاية راجاستان الهندية عملت على دعم الهند على تصميم سلاح نووي جديد عن طريق المحاكاة بالحاسب الآلى ، وإن التجارب هي محصلة برنامج تسليح نووي بدأ في البلاد منذ سنوات عديدة” لتصبح الهند دولة نووية مكتملة الأركان ، حيث كانت المرة الأولى (بوخران 1) التى حاولت فيها الهند اختبار القنابل النووية الخاصة بها في مايو عام 1974 والتى عرفت بأسم بوذا المبتسم .
وقد بدأت الهند مشروعها النووي منتصف القرن الماضي حيث بذلت جهودًا جادة في سبيل صناعة قنبلتها النووية الخاصة ، وتطوير البنية التحتية النووية ، وتشجيع الأبحاث عن تقنيات الطاقة النووية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، ويعود تاريخ برنامج الهند النووي إلى عام 1944 عندما حاول عالم الفيزياء النووية هومي بهابها إقناع الكونجرس الهندي بمحاولة استغلال الطاقة النووية ، وبعدها بعام واحد أسس بهابها معهد تاته .
وقد أنشأت الهند هيئة الطاقة النووية عام 1954 ، بعد أن مهدت لذلك عبر خطوات بدأت عام 1948، أي بعد الاستقلال بعام واحد ، وعلى الرغم من أن نهرو رئيس الوزراء آنذاك اتخذ موقفا أخلاقيا معاديا للسلاح النووى ، وجعل من هذا الموقف موضوعا دائما ساد كل التصريحات القومية الهندية ، إلا أنه أعرب أيضا عن اهتمامه بوجود خيار نووى عسكرى من أجل الهند ، ولم تكن الأنشطة الهندية بالنقاء الذى أظهرته الحكمة الهندية التقليدية .
ثم أنشأت الهند أول مفاعل نووي في عام 1955 ، وأجرت نيودلهي التفجير الأول عام 1974 (بوخران الأول) وقالت حينها إنه لأغراض سلمية ، لتواظب بعد ذلك على تطوير قدراتها النووية ، وبدا أن السلاح النووي أداة لا غنى عنها في مواجهة الجيران الأقوياء مثل الصين وباكستان ، وفرضت الدول النووية العظمى حصارًا تكنولوجيًا على الهند وباكستان التي كانت بدورها تتسابق إلى تحقيق إنجازات الهند، وعجز برنامج الهند النووي لعدة أعوام عن اكتساب المصداقية ، وكانت مسيرته مُكبلة بغياب الموارد الطبيعية والاعتماد على التكنولوجيا المستوردة والدعم التقني الأجنبى ، وأعلنت رئيسة الوزراء آنذاك أنديرا غاندي فى خطاب إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية الدولية أن برنامج الهند النووي لا ينوي تطوير أسلحة نووية على الرغم من أنها أذنت لهيئة الطاقة الذرية الهندية بتطوير تصميم مبدأي للقنبلة الهيدروجينية .
وترك برنامج الهند النووي فراغًا سياسيًا وإداريًا في أعقاب حالة الطوارئ في عام 1975 التي أدت إلى انهيار حكومة أنديرا غاندي ، وبالرغم من ذلك استمر العمل على تطوير القنبلة الهيدروجينية تحت قيادة المهندس الميكانيكي مالور سرينيفاسان بوتيرة بطيئة ، وفى عام 1980 عادت أنديرا غاندي إلى منصب رئاسة الوزراء بعد الانتخابات التشريعية ، وبدأ المشروع النووي يستجمع قواه تحت قيادة رامانا في عام 1981 ، وواصل البرنامج النووي الهندي تقدمه ، وبدأ العمل على تطوير قنبلة هيدروجينية ، إلى جانب إطلاق برنامج لتطوير الصواريخ تحت قيادة الدكتور عبد الكلام الذي كان يعمل مهندسًا للطيران والفضاء الجوي حينها .
وبعد الانتخابات العامة عام 1989 قررت الحكومات الهندية المتعاقبة أن تلتزم بحظر الأسلحة النووية مؤقتًا خشيةً من غضب المجتمع الدولى ، ولكن بناء على دعم الشعب الهندى قرر رئيس الوزراء ناراسيمها راو استكمال التجارب في عام 1995 ، ولكن جميع الخطط توقفت عندما اكتشفت أقمار التجسس الأمريكية علامات تدل على تجهيز الهند لإجراء تجارب نووية في موقع بوخران للتجارب النووية في ولاية راجستان ، وتدخلت الولايات المتحدة وأصدرت تحذيرا صارما وانهار المشروع .
وبعد هذا الفشل وفي 1998 تغيرت الحكومة الهندية وجاء رئيس وزراء جديد ليضع الهنود خطة للعبور نحو النادى النووى وتجاوز مراقبة المخابرات الأميركية عبر قمر صناعي تجسسي ، فبدأوا يجهزون لتنفيذ التجربة النووية في الأوقات التي لا يمر فيها القمر فوق الهند أي “الساعات العمياء”.
وعندما انتاب الأميركيين شك من تحركات الجيش الهندى ، بدأوا في تشغيل قمرين للمراقبة ، ورغم صعوبة المهمة ، إلا أن الهنود وجدوا حلا لذلك تمثل في تضليل الولايات المتحدة بافتعال أزمة مع باكستان ، حيث قامت الهند باستنفار قواتها صوب الحدود مع باكستان في كشمير ، لتندلع أزمة سياسية كبرى بين البلدين ، جعلت المخابرات الأميركية توجه أقمارها الصناعية التي كانت تراقب التجربة النووية إلى منطقة كشمير حيث النزاع الهندي الباكستاني ، لتنطلق الهند وتكمل تجربتها بعيدا عن أعين الولايات المتحدة وتفاجئ العالم بدخولها للنادي النووى .
واعتبر إخفاق المخابرات المركزية الأميركية CIA في توقع التجارب النووية الهندية حينها “فشلا هائلا” ، ليس بسبب ضعف الأقمار الصناعية بل أيضا نتيجة الفشل في تحليل الصور ونقص المصادر السرية داخل الهند .
فالدول العظمى التى تمتلك كل منها ترسانتها النووية تحاول إقناع العالم بأن السلاح النووى فى أيديها سلاح آمن لأن تلك الدول تتمتع بالديمقراطية ، ولكنها فى حد ذاتها مقولة خادعة فأوضح مثال على ذلك هو أن الولايات المتحدة الأمريكية التى تفتخر بديمقراطيتها كانت أول دولة فى التاريخ وآخر دولة حتى الآن تفجر القنابل النووية ، وكان ذلك فى اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية حينما أسقطت قنبلة الولد الصغير على جزيرة هيروشيما فى السادس من أغسطس عام 1945 ، تلاها أسقاط قنبلة الرجل البدين بعد ثلاثة أيام على جزيرة نجازاكى فى التاسع من نفس الشهر ، على الرغم من علمها بأن طوكيو لا تمتلك سلاحا نوويا مما أدى إلى مقتل ما يصل إلى 140,000 شخص في هيروشيما و80,000 في ناجازاكي ، وكانت هذه هى الهجمات الوحيدة باستخدام الأسلحة النووية فى تاريخ الحروب ، والمثال الثانى هو أن تلك الدولة الديمقراطية الكبرى نفسها تغمض عينيها عمدا عن امتلاك اسرائيل لترسانة من الأسلحة النووية بالرغم من سياستها العدوانية فى المنطقة العربية ، فضلا عن تراخيها فى موقفها من الهند وأمدادها بالوقود النووى ، وفى الوقت نفسه تتشدد فى فرض الحصار على أيران ، وأسقطت دولتى العراق وليبيا اللتين تطلعتا لامتلاك السلاح النووى ، علماً بأن استمرار ازدواجية المعايير في التعامـل مع المسألة النووية الإسرائيلية يُصيب دول منطقة الشرق الأوسط بالإحباط وخيبة الأمل تجاه سياسات منع الانتشار النووى .
وأخيرا ربما كان الوهم الأكبر من أوهام العصر النووى هو أن أية مجموعة صغيرة من الدول التى تمتلك أسلحة نووية تستطيع تأمين نفسها والعالم كله ضد مخاطر الانتشار النووى من دون أن تفرض الأولوية القصوى على نزع سلاحها النووى هى أيضا ، فالإنتشار النووى وعدمه وجهان لعملة واحدة ، ومن ثم فإن الارتداد عن الانتشار النووى يكفيه فقط قلب الظروف التى سببته منذ البداية ، فنجد أنه عندما تعتبر الهموم الأمنية السبب الأول فمعنى ذلك أن تحسن الأحوال الأمنية لدولة ما سوف يقود إلى عدم الانتشار النووى ، وهذا المنطق الخادع نفسه يرى أنه فى حالة وجود عوامل محلية معينة وراء حيازة دولة ما للأسلحة النووية فإن تغيير هذه العوامل الأصلية بعد الانتشار النووى سوف يؤدى إلى العكس أى إلى عدم الانتشار النووى ، فالاهتمامات الأمنية الخارجية للدول النووية هى التى تقرر عالميا وبشكل حاسم عدم الانتشار النووى .
د. مجدى عبدالله
استاذ متفرغ بهيئة الرقابة النووية والإشعاعية
mhamed754@yahoo.com
