المقالاتطاقة ونقل

سكك حديد مصر شاهدة على الزمان والمكان

د. مجدى عبدالله
يُعتبر عام 1814 هو بداية عصر السكك الحديدية الحقيقى ، حيث انطلقت أول قاطرة بخارية تسير على قضبان في العالم في بريطانيا ، وانفتحت أمام البشرية آفاق جديدة في مجال نقل البضائع والأفراد .
وتعتبر مصر ثاني دولة في العالم بعد إنجلترا التى أدخلت السكك الحديدية إلى أراضيها ، وتعد خطوط السكك الحديدية المصرية أول خطوط يتم إنشاؤها في أفريقيا والشرق الأوسط ، حيث بدأ إنشاؤها في خمسينيات القرن التاسع عشر وتحديدا يوم 12 يوليه عام 1851 ، وبدأ تشغيلها عام 1854 .
وقد بدأت قصّة السكك الحديدية فى مصر في مطلع عام 1834 ، فبعد ان فرغ الإنجليز من مد اول خط حديدى فى العالم وهو الخطّ الحديدي بين “ليفربول” و”مانشستر” عام 1832 ، قرروا نقل التجربة إلى مصر ، وعرضوا على محمد على مؤسس مصر الحديثة فكرة مشروع إنشاء طريق حديدي يبدأ من عين شمس ثم يخترق الصحراء إلى السويس بطول 80 ميل من القبة وحتى السويس ، إلا أن فرنسا وضعت العقبات في سبيل تنفيذ المشروع ، حتى لا تعرقل نيتها المبيتة فى حفر قناة تصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر ، وبالفعل عدل محمد علي عن قراره فى إنشاء خط السكة الحديد كما رفض اقتراح حفر قناة السويس .
وكانت المعدّات التي يقتضيها إنشاء المشروع قد وصلت إلى الاسكندرية قبل رفض المشروع ، وظلت متروكة لمدة 15 عاما حتى استُخدم جزءٌ منها في إنشاء خط يصل بين محاجر الدخيلة وميناء المكس، ويعتبر هذا الخط أول خط حديدي أنشىء في مصر .
وبعد وفاة محمد علي ، وفى عهد عباس الأول تمكن الانجليز من الاتفاق معه على مشروع السكك الحديدية ، وفى عام 1850 تمكن روبرت ستيفنسن نجل جورج ستيفنسن مخترع القاطرة الحديدية من الاتفاق على ان يكون بدء الخطّ من الإسكندرية إلى القاهرة فإلى السويس ، وفي أول سبتمبر 1851 ابتدأ العمل في المشروع ، وفى شهر إبريل 1853 تم إنجاز الخط من الإسكندرية إلى بلدة كفر العيس قبالة كفر الزيات ، وتم تسيير أول قاطرة على أول خط حديدي في مصر بين القاهرة ومدينة كفر الزيات عام 1854.
وفى عام 1855 تم تشييد محطة مصر وقام بتصميمها المعماري البريطاني “أدون باتر”، الذى حرص على أن يكون الطراز العربي الإسلامي هو مفرداته في التصميم لمواكبة تلك الحِقْبة الزمنية وتراثها الثري وكانت خارج أسوار المدينة عند بوابة الحديد في طريق شبرا ، وفي يناير 1856 افتُتِح خط «القاهرة – الاسكندرية» ، وبذلك تم اختزال الرحلة من الإسكندرية إلى القاهرة في سبع ساعات بعد أن كانت تقطع بنحو 42 ساعة بالزوارق في ترعة المحمودية أو بالبواخر في النيل ، وبعد عامين تم افتتاح الخط الثاني بين القاهرة والسويس ، وبعد عامين افتتح خط القاهرة السويس ، وبعد عامين آخرين افتتح خط القاهرة بورسعيد أي عام 1860 ، بعد ذلك وصل خط السكة الحديد إلى أسيوط في عام 1874 .
وكانت محطة مصر قد واكبت تطوّر القطارات وتاريخها ، إذ استخدمت بها القاطرة الأولى التي وصلت إلى مصر عام 1852، وهي من صنع ستيفنسن وشركاه ، وبقيت مقصورة على استعمال الركاب ، ثم جرى استيراد بضع قاطرات صنعها مهندسون من إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا ، وظلت إنجلترا محتكرة استيراد القاطرات حتى عام 1858 عندما اشتُرِيت قاطرات فرنسية بواسطة فرديناند ديليسبس .
وفي عهد الخديوي إسماعيل ( 1863 1879م) تم إصلاح أحوال السكة الحديد ، وبذل إسماعيل جهدًا كبيرًا لمدها في كافة أنحاء القطر ، وذلك لنشر العمران ، ولتسهيل حركة التجارة والانتقال بين المناطق المختلفة ، وفي عهده ايضا بدأت مصر دخول عصر قطارات المدن عندما تم مد خط قطارات حلوان الذي يربط بين محطة سكك حديد مصر في قلب القاهرة بضاحية حلوان عام 1872 .
وفي عام 1898 بدأ إنشاء الخط الحديدي الثالث إلى الأقصر على بعد 340 ميلا من القاهرة حيث أقيمت شركة خاصة تولت مد خط السكك الحديدية إلى مدينة أسوان في أقصى الجنوب باسم شركة قنا أسوان للسكك الحديدية .
وبعد دخول البريطانيين للسودان عام 1899 قررت سلطات الاحتلال تعديل خط القطار من الأقصر حتى أسوان ثم الشلال الأول في أقصى جنوب مصر ليصبح امتدادا طبيعيا لشبكة السكك الحديدية في مصر ، وتم ذلك المشروع عام 1926 حيث امتد الخط إلى وادي حلفا داخل الحدود السودانية .
وأثناء الحرب العالمية الأولى بدأ الإنجليز في إقامة خط للسكك الحديدية يربط بين مصر (القنطرة شرق على الضفة الشرقية  لقناة  السويس ) وفلسطين ( غزة ) لخدمة المجهود الحربي ، حيث اكتمل بناؤه وتسيير القطارات عليه عام 1918 ، وبعد احتلال إسرائيل لسيناء 1967 تم إلغاء خط السكك الحديدية الذي يصل إلى رفح ، وقد استخدمت إسرائيل قضبان الخط فى تدعيم أعمدة خط برليف على قناة السويس ومن ثم اختفى الخط تماما .
وقد شهدت محطة سكك حديد مصر )محطة رمسيس حاليا ( النهضة الحديثة لمصر ، وأربعة ثورات ، والنكسة ، وحرب أكتوبر 1973 ، ولا تزال ثابتة في مكانها لا تحرّك ساكنا .
ففى أثناء الثورة العرابية ( الثورة الأولى ) لحقت الخسائر بمحطة مصر وغزاها التلف بعد أن انتقلت إلى الموظفين العسكريين وأُبعد الفنيون الأجانب عنها ، وأخضع زعماء الثورة السكك الحديدية لأوامرهم العسكرية ، ومع تفاقم الأحداث احترق مبنى المحطة عام 1882 ونُهبت محتوياتها ، وأُعيد بناء المحطة كسابق عهدهاعلى نفس الطريقة القديمةعام 1883 ، وبدأ الإنجليز بالعمل وفق برنامج إصلاحى للمحطة وللسكك الحديدية .
وفى أثناء الثورة الثانية ( ثورة 1919 ) أضرب عمال السكة الحديد مما اضطرت معه السلطات البريطانية إلى إرسال عدد كبير من الجنود كى يتدربوا في ورش العنابر في بولاق ثم يحلّوا محل العمال المصريين إذا استمروا في الإضراب ، إلا أن العمال أتلفوا محولات حركة القطارات وقطعوا خطوط السكك الحديدية وبالرغم من ذلك بقيت المحطة صامدة فلم يلحق بها الأذى مثلما حصل خلال الثورة العرابية .
وبعد قيام ثورة يوليو 1952 ( الثورة الثالثة ) قرر جمال عبدالناصر توسعة مبنى المحطة عام 1955 وتطويره ، وفى عام 1961 طوّرت المحطة تطويراً كبيراً خصوصا واجهتها الأمامية لكنها ظلت تتسم بالطراز الإسلامى على الطريقة الأندلسية ، وفى عام 2008 نفّذت الحكومة مشروع تطويرلمحطة مصرانتهى العمل فيه عام 2011 لتشهد محطة مصر الثورة الرابعة ( ثورة 25 يناير ) .
ومثلما كانت محطة مصر شاهدة على اربع ثورات فكانت خطوط السكة الحديد سببا فى استقالة أو إقالة العديد من وزراء النقل :
• ففي عام 2000 تم إقالة سليمان متولي وزير النقل الأسبق، والذي تولى المنصب لمدة 20 عاما بسبب حادث سقوط سيدة من حمام قطار .
• وفى 2002 أقيل المهندس ابراهيم الدميرى وزير النقل على خلفية حادثة حريق قطار عند مدينة العياط وكانت نتيجتها مقتل 361 شخصا معظمهم احترقوا حيث صنفت هذه الحادثة ضمن أسوأ 10 حوادث قطارات حول العالم .
• وفي عام 2009 استقالة المهندس محمد لطفي منصور وزير النقل على خلفية تصادم قطارين بمدينة العياط بمحافظة 6 أكتوبر .
• وفى 17 نوفمبر عام 2012 استقالة المهندس محمد رشاد المتيني الذى تولى منصب وزير النقل في أغسطس من نفس العام ، حيث بلغ عدد الحوادث في عهده نحو 15 حادثة ، أبرزها تصادم قطاري الفيوم ، الذي وقع ضحيته 4 قتلى و43 مصابًا ، ولكن “المتيني” أقيل بسبب تصادم قطار أسيوط بأتوبيس لنقل الأطفال كان ضحاياه 47 طفلًا و13 مصابًا.
• وفى15 يناير 2013 أُقيل المهندس حاتم عبداللطيف وزير النقل بسبب حادثة قطار البدرشين ، الذي أوقع 19 شخصًا قتيلا وإصابة 117 آخرين .
• وفي سبتمبر 2013 الإقالة الثانية للمهندس إبراهيم الدميري وزير النقل في عهد حكومة الدكتور حازم الببلاوي بسبب حادث قطار دهشور ، حيث اصطدم القطار بسيارة نقل وأخرى ميني باص ، وراح ضحيته 27 شخصًا .
• وأخيرا فى 27 فبراير 2019 استقالة الدكتور هشام عرفات على خلفية اصطدام جرار بمصدات رصيف رقم 6 داخل محطة مصر بالقاهرة وراح ضحيته 22 مواطنا حرقا .
وتدير السكة الحديد الهيئة القومية لسكك حديد مصر وهى من اكبر المؤسسات الاقتصادية في مصر والعالم العربي ، و هي الأكبر في مجال خدمات نقل الركاب والبضائع ، وتعتبر العمود الفقري لنقل الركاب في مصر ، حيث يبلغ حجم نقل الركاب بالسكك الحديدية نحو 1.5 مليون راكب يوميا ، و يبلغ نصيبها من نقل الركاب أكثر من 30% من إجمالي حجم النقل علي المستوى القومي ، وهى عضو عامل في الاتحاد العربي للسكك الحديدية وفي لجنته الدائمة ، وكذا في اتحاد سكك حديد آسيا والشرقين الأوسط والأدنى ، كما أنها عضو عامل في الاتحاد الغربي للسكك الحديدية ، ونحن كمصريين لنا أن نفخر بأن “سكك حديد مصر” ثانى أقدم السكك الحديدية في العالم بعد بريطانيا ، والأولى في إفريقيا والشرق الأوسط.

الوسوم