المقالات

الاحتفال بعيد العمال فى ظل جائحة فيروس كورونا المستجد

بقلم :/ د.مجدى عبدالله

إن جائحة الفيروس التاجي COVID-19هو أزمة الصحة العالمية في عصرنا الحالى وأكبر تحد واجهه العالم منذ الحرب العالمية الثانية ، فمنذ ظهوره في آسيا أواخر العام الماضي انتشر الفيروس فى كل القارات باستثناء القارة القطبية الجنوبية ، ونجد أن الحالات تتزايد يوميا في أفريقيا والأمريكتين وأوروبا ، فحتى كتابة هذه السطور نجد أن عدد الإصابات على مستوى العالم قد تخطى الثلاثة ملايين إصابة ، وعدد الوفيات تجاوز 230 الف وفاة .

وتتسابق الدول لإبطاء انتشار الفيروس عن طريق اختبار وعلاج المرضى ، وإجراء تتبع الاتصال ، والحد من السفر ، وحجر المواطنين ، وإلغاء التجمعات الكبيرة مثل الأحداث الرياضية والحفلات الموسيقية والمدارس وغيرها ، وبالرغم من ذلك الوباء يتحرك مثل الموجة ، وهي الموجة التي قد تحطم على الأقل قدرتنا على التأقلم فيخلق لدينا أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية مدمرة تترك ندوبًا عميقة ، فأصبحت عشرات من أعظم المدن في العالم مهجورة حيث يبقى الناس في منازلهم إما عن طريق الاختيار أو بأمر حكومي ، وأغلقت المتاجر والمسارح والمطاعم والحانات فأصبحت مجتمعاتنا الآن كأننا فى مناطق مجهولة لا يمكن التعرف عليها ، وفى الدول التى تعتمد بشكل كبير على السياحة ومن بينها مصر نجد الفنادق فارغة والشواطىء والأماكن الأثرية مهجورة ، وكل يوم يفقد الناس وظائفهم ودخلهم ولا توجد طريقة لمعرفة متى ستعود الحياة الطبيعية .

وفى وسط كل ذلك يمر علينا الأول من مايو هذا العام وهو عطلة وطنية عامة في العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم ويطلق على هذه المناسبة في معظم الحالات اسم “عيد العمال” أو “يوم العمال الدولي” أو اسماء مشابهة ، ونجد أن بعض الدول تحتفل به في تواريخ أخرى مختلفة مثل الولايات النتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وهولندا ، ويتعلق ذلك بكيفية نشأة العطلة في تلك البلدان .

وتم اختيار 1 مايو ليكون يوم العمال العالمي لإحياء ذكرى قضية هاى ماركت عام 1886 فى شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية ، حيث كان هناك إضراب عام لجعل يوم العمل يبلغ ثمانى ساعات في اليوم وكان ذلك فى الرابع من مايو ، حيث تصرفت الشرطة لتفريق تجمع عام لدعم الإضراب عندما ألقى شخص مجهول قنبلة وردت الشرطة بإطلاق النار على العمال وأدى الحادث إلى مقتل سبعة ضباط شرطة وثمانية وثلاثين مدنيا على الأقل ، كما اصيب ستون ضابط شرطة ومائة وخمسة عشر مدنيا ، وتم بعد ذلك اعتقال المئات من قادة العمال والمتعاطفين وإعدام أربعة شنقا ، بعد محاكمة اعتبرت بمثابة إجهاض للعدالة ، وفى اليوم التالي 5 مايو في ولاية ويسكونسن أطلقت ميليشيا الدولة النار على حشد من المضربين مما أسفر عن مقتل سبعة من بينهم تلميذ ورجل يطعم الدجاج في ساحته ، وبعد سلسلة من الاحتجاجات وأعمال الشغب فى مايو من كل عام فى اوروبا وامريكا حتى عام 1904 حيث دعا المؤتمر الاشتراكى الدولى فى امستردام جميع منظمات الحزب والنقابات فى جميع الدول للتظاهر بقوة في الأول من مايو من أجل التأسيس القانوني لجعل يوم العمل 8 ساعات من أجل المطالب الطبقية للبروليتاريا ومن أجل السلام العالمي ، وجعل المؤتمر إلزاميًا على المنظمات البروليتارية فى جميع الدول التوقف عن العمل في 1 مايو حيثما أمكن ذلك دون أى إصابات للعمال .
وكان عيد العمال نقطة محورية للمظاهرات التى قامت بها مختلف الجماعات الاشتراكية والشيوعية والفوضوية منذ الأممية الثانية ، فعيد العمال هو واحد من أكثر أيام العطل الهامة في الدول الشيوعية مثل الصين وكوريا الشمالية وكوبا والاتحاد السوفيتى السابق وعادة ما تتميز احتفالات عيد العمال في هذه البلدان بمسيرات متقنة من القوى العاملة بما في ذلك عرض المعدات العسكرية والجنود ، وأصبح يوم 1 مايو يوما للعمال تحتفل غالبية البلدان في جميع أنحاء العالم به ، وتحتفل به الدول الأوروبية بمسيرات فنية رائعة ، أما فى مصر فكانت تخرج مسيرات تضم أصحاب الحرف المختلفة مع نماذج من منتجاتهم فى كل محافظات مصر ، ثم اقتصر بعد ذلك على احتفال رسمى يحضره رئيس الجمهورية وتكرم فيه الدولة بعض قيادات اتحاد العمال وقدامى النقابيين .

وفى هذا العام ووسط الحجر المنزلى فى كل مدن العالم بسبب جائحة فيروس كورونا COVID-19 لم يكن هناك مجال للاحتفال بعيد العمال ، ولكننا نجد أن الأبعاد البشرية لهذا الوباء تصل إلى ما هو أبعد من الاستجابة الصحية الحرجة مما يؤثر على جميع جوانب مستقبلنا الاقتصادية والاجتماعية والتنموية ، فنجد أن تأثير جائحة COVID-19 على العمال من ناحية إجراءات التباعد الاجتماعي كانت متطرفة ولكنها ضرورية مما يساعد على السيطرة على انتشار الفيروس التاجي من أجل إنقاذ الأرواح ، وقد أصبح من الواضح أن التدابير الاجتماعية ستزيد من عدم المساواة بين العمال ، فقد حدثت تغييرات كبيرة في كل من المنزل والعمل ولسوء الحظ فإن الذين سيعانون أكثر من غيرهم هم من العمال ذوي الأجور المتدنية الذين لا يستطيعون الحصول على عمل ، أما بالنسبة للعاملين فى القطاع الرسمى (الحكومى ) فيشعرون بالأمان تحت مظلة الحكومات .

وتكشف أحدث بيانات منظمة العمل الدولية عن تأثير جائحة COVID-19 الناجم عن فيروس كورونا المستجد في سوق العمل عن التأثير المدمر على العاملين في الاقتصاد غير الرسمي وعلى مئات الملايين من الشركات حول العالم ، ومع استمرار الانخفاض الحاد في ساعات العمل على مستوى العالم بسبب الجائحة يعني هذا أن 1.6 مليار عامل في الاقتصاد غير الرسمي أي ما يقرب من نصف القوى العاملة العالمية يواجهون خطرًا مباشرًا بتدمير سبل عيشهم ، ومن المتوقع أن تؤدي هذه الأزمة إلى إلغاء 6.7 % من إجمالي ساعات العمل في العالم في النصف الثاني من عام 2020، أي ما يعادل 195 مليون وظيفة بدوام كامل ، مع حدوث تخفيضات كبيرة في الدول العربية (8.1 %) أو قرابة 5 ملايين عامل بدوام كامل ، وفى أوروبا (7.8%) أو 12 مليون عامل بدوام كامل ، وفى آسيا والمحيط الهادئ (7.2%) أو 125 مليون عامل بدوام كامل ، كما يُتوقع حدوث خسائر فادحة بين مختلف فئات الدخل ، وبشكل خاص في بلدان الشريحة العليا من الدخل المتوسط (7.0 %) 100 مليون عامل بدوام كامل ، وهذه الأرقام أعلى بكثير من آثار الأزمة المالية لعام 2008-2009 .

وقد تكون القطاعات الأكثر عرضة للخطر هي خدمات الإقامة والطعام ، والصناعات التحويلية ، وتجارة التجزئة ، وأنشطة الأعمال والأنشطة الإدارية ، وستتوقف الزيادة النهائية في البطالة العالمية لعام 2020 بدرجة كبيرة على التطورات المستقبلية والسياسات المتبعة ، وهناك خطر كبير بأن يكون الرقم مع نهاية العام أعلى بكثير من التوقعات الأولية لمنظمة العمل الدولية ، واليوم يتأثرأكثر من أربعة أخماس (81%) من القوى العاملة العالمية والبالغ عددها 3.3 مليار شخص جراء الإغلاق الكلي أو الجزئي لأماكن العمل.

وقد تؤدي أزمة COVID-19 إلى مشاكل في الصحة العقلية للعديد من العمال ، ونحن بحاجة إلى أن ندرك العواقب طويلة الأجل على صحة جميع العمال ، ويمكن للمرء أن يتوقع تسربًا من الموظفين ليس فقط بسبب العدوى بـ COVID-19ولكن أيضًا بسبب الإجهاد والإحباط والعزلة ، ومن المتوقع أيضا حدوث تفاوتات صحية كبيرة بسبب الوباء والركود الاقتصادي ، وأيضا بالنسبة لعمال المعاطف البيضاء (الأطباء) ستكون حصيلة الصحة النفسية بشكل رئيسي نتيجة ارتفاع عبء العمل خلال الأزمة ، وبالنسبة للعمال ذوي الياقات البيضاء (التمريض) ستعاني صحتهم العقلية بدلاً من ذلك من آثار العزلة والحجر الصحي ، وأخيراً بالنسبة للعمال ذوي الياقات الزرقاء (العمالة المساعدة) يمكن أن يؤدي انعدام الأمن الوظيفي وخسارة الدخل إلى مشاكل في الصحة العقلية .

وعادة ما تؤدي حالات الركود إلى تفاقم التفاوتات الصحية الموجودة من قبل ولها تأثير أكبر على صحة الفئات الضعيفة المحرومة ، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة والأمراض والعاطلين عن العمل ، وبالنسبة لهؤلاء العمال يجب على الدول اتخاذ تدابير داعمة إضافية لضمان أن هؤلاء السكان يمكنهم استئناف أدوارهم في المجتمع وتجنب عواقب مالية أو نفسية شديدة .

حتى المحامين لم يسلموا من جائحة COVID-19 فنجد أن حياة الإغلاق فرضت ضغوطا على صحتهم العقلية ، فقد كشفت دراسة عالمية استقصائية أجرتها RSG شملت محامين وموظفي مكتب محاماة على جميع مستويات الأقدمية أن العزلة ونقص التفاعل يشكلان أحد التحديات الرئيسية للعمل ، حيث وجدت الدراسة أن الشركاء والمرتبطين يشعرون بالضغط والعزلة من آثار Covid-19 نتيجة عمليات الإغلاق العالمية ، وأجبر الصناعة القانونية على التكيف مع التقنيات المنتشرة في كل مكان فجأة مثل منصات التداول بالفيديو Zoom و Google Hangouts وقد كفل استخدام هذه الأدوات التشغيل السلس لكثير من نتائج المحامين ، لكنهم أبلغوا عن خسائر في صحتهم العقلية والتي يلومونها على عدم التفاعل وجها لوجه مع الزملاء وغيرهم ، وأفاد المحامون الأصغر سنا أنهم يشعرون بالوحدة والقلق بشأن صحتهم وأمنهم الوظيفي خصوصا أنهم بمفردهم وليس لديهم شخص يمكنهم أن يسألوه بسهولة عن الأشياء ، وكانت النساء ضعف احتمال الرجال للإبلاغ عن تأثرهم بذلك .

وتدعو منظمة العمل الدولية إلى اتخاذ تدابير عاجلة ومحددة ومرنة لدعم العمال والشركات ، ولا سيما المؤسسات الصغيرة والعاملين في الاقتصاد غير الرسمي وغيرهم من الفئات الضعيفة ، وبالنسبة لملايين العمال يعني ذلك عدم وجود دخل ولا غذاء ولا أمن ولا مستقبل ، ومع تطور الوباء وأزمة الوظائف تصبح الحاجة إلى حماية أكثر الفئات ضعفاً أكثر إلحاحاً .

وينبغي أن تضع الحكومات خططًا لتقليل الفجوات في أعباء المرض على المستويين الوطني والدولي ، ويجب أن تركز الجهود بشكل أساسي على العاملين في الطبقة الاجتماعية الدنيا ، حيث يمكن أن تؤدي التدابير إلى تخفيضات أكبر في الأمراض ، والتعاون الدولي ضروري أيضا لدعم البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل التي تكون فيها نسبة كبيرة من المواطنين فقراء .

د. مجدى عبدالله
mhamed754@yahoo.com

الوسوم