غدا .. فى التاسع من يناير ، تحل ذكرى البدأ فى تشييد واحد من أهم المشروعات العملاقة فى العصر الحديث ، بل وربما أهم مشروع فى حياة المصريين ، إنه المشروع الذى غير وجه الحياه فى مصر، إنه السد العالى الذى استهدف بناؤه حجز فيضان النيل وتخزين مياهه وتوليد طاقة كهربية منه .
فقبل بناء السد كانت مصر تشهد فياضانات عارمة فى بعض السنوات ، ويقول مؤرخون أن من أشدها فيضان عام 1887 حيث بلغ إيراد مصر من المياه حينها نحو 150 مليار متر مكعب ، وحمل النهر جثث الضحايا من السودان وجنوب مصر حتى المصب .
ثم أٌقيمت مشروعات التخزين السنوى للمياه ، مثل خزان أسوان وخزان جبل الأولياء على النيل للتحكم فى إيراد النهر المتغير ، كما أٌقيمت القناطر لتنظيم الرى على طول مجرى نهر النيل ، لكن التخزين السنوى لم يحل المشكلة إلا جزئياً ، خاصةً مع تفاوت إيرادات المياه من الفيضان التى قد تنخفض إلى 42 مليار متر مكعب أو تزيد لتصل إلى 151 ملياراً .
وفى أعقاب قيام ثورة 23 يوليو وخروج مصر من حقبة الظلام والفساد السياسى والاخلاقى ، عملت مصر والثورة على إعادة إحياء نفسها من جديد وعلى التطوير الدءوب فى كل مجالات ونواحى الحياة السياسية والاقتصادية ، وجاء فى مقدمة تلك المشاريع التطويرية مشروع بناء السد العالى الذى اعتبرته الثورة فى مقدمة مهامها لتحقيق التنمية الزراعية وتحقيق الرخاء ، حيث تقدم المهندس المصري اليوناني الأصل أدريان دانينوس إلي مجلس قيادة الثورة بمشروع لبناء سد ضخم عند أسوان ، لحجز فيضان النيل وتخزين مياهه وتوليد طاقة كهربائية منه ، وقامت الثورة بتكليف الخبراء الألمان بإعداد الدراسات عن المشروع حيث تم إقرار التصميم النهائي للسد ومواصفات وشروط تنفيذه عام 1954 ، وظهرت من الدراسة مشكلة التمويل لضخامتها ولكن تصميم مصر على بناء السد العالى لما ينتج عنه من فوائد اقتصادية لم يثنيها عن محاولة التوصل الى اتفاق مع الغرب وذلك حفظا لمصالح الشعب المستقبلية ، فقد كان ذلك أول مشروع بعيد المدى فى مصر .
وفى سنة 1955 لجأت مصر الى كلا من الولايات المتحدة وانجلترا والبنك الدولى لتمويل مشروع بناء السد ، وتقدمت كل من إنجلترا وأمريكا فى خريف 1955 بعروض جزئية للمشاركة فى تمويل قروض مشروع بناء السد العالى تبلغ فى جملتها 130 مليون دولار ، وأشترطتا لهذه المعونة موافقة البنك الدولى على تقديم قرضه لمصر البالغ 200 مليون دولار ، وفى نوفمبر عام 1955 بدأت مصر مفاوضاتها مع البنك الدولى وحكومات كل من انجلترا وامريكا إلى أن اعلن البنك الدولى يوم 17 ديسمبر 1955 أنه سيقوم بتمويل مشروع بناء السد مشتركا مع إنجلترا وأمريكا ، وأن البنك سيقوم بدفع نصف العملات الصعبة بينما تقوم حكومتا لندن وواشنطن بدفع النصف الآخر ، لكن كانت عملية تمويل قروض مشروع بناء السد كلها مشروطة منذ البداية بشروط مجحفة تتناول السيادة الوطنية على مصر كأساس لتنفيذ المشروع ، وكان من الطبيعى أن ترفض مصر هذه الشروط لأنها تؤدى إلى سيطرة الغرب على إقتصاد مصر ثم تنتهى بالتإلى بالإطاحة باستقلالها ، ورغم ذلك الرفض لم تتخلى مصر عن هدفها فى ضرورة بناء السد العالى لحتميته الاقتصادية ، وأدى رفض مصر الى وصول مدير البنك الدولى إلى القاهرة يوم 19 يونيو 1956 وأجراء محادثات مع المسؤلين ، وأمكن بعدها التوصل الى اتفاق مبدئى مع البنك الدولى يوم 12 يوليو ، إلا أن دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة فى ذلك الوقت استدعى السفير المصرى فى واشنطن الى مكتبه وابلغه بأن حكومة واشنطن سحبت عرضها بتقديم المعونة المالية لبناء السد وسلمه كتابا اعلنت فيه الحكومة الأمريكية سحب عرضها وقدره 56 مليون دولار للمشاركة فى تمويل قروض مشروع بناء السد وفى نفس الوقت وزع دلاس على الصحافة نص خطاب الرفض قبل أن يصل رسميا الى الحكومة المصرية .
ولم يختلف الوضع فى لندن فقد استدعى فى اليوم التالى السير هارولد كاشيا الوكيل الدائم لوزارة الخارجية البريطانية السفير المصرى فى بريطانيا ، وأبلغه أن بريطانيا قد قررت بدورها سحب العرض الذى كانت تقدمه لمصر وقدره حوالى 14 مليون دولار للمشاركة فى تكملة تمويل قروض مشروع بناء السد العالى ، وفى نفس اليوم أعلن البنك الدولى بأنه لا يستطيع أن يقرض مصر مبلغ المائتى مليون دولار لتمويل مشروع بناء السد العالى كما وعد مصر قبل اسبوع وذلك بسبب القرارين الأنجلو-أمريكى ، وفى 26 يوليو 1956 كان رد الرئيس جمال عبد الناصر الحاسم على سحب امريكا وانجلترا تمويل بناء السد هو تاميم قناة السويس لتكون شركة مساهمة مصرية ، ذلك القرار الذى أثار مفاجأة كبيرة للدوائر السياسية العالمية ، وفى 29 اكتوبر حدث العدوان الثلاثى على مصر والمكون من كل من اسرائيل وانجلترا وفرنسا، وبعدها تم انسحاب الدول المعتدية فى 23 ديسمبر من نفس العام بعد أن وقفت دول العالم بجوار مصر .
وفى عام 1958 تم توقيع اتفاقية بين روسيا (الاتحاد السوفيتى سابقا) ومصر لإقراضها 400 مليون روبل لتنفيذ المرحلة الأولى من السد ، وفى العام التالى (1959) تم توقيع اتفاقية توزيع مياه خزان السد بين مصر والسودان ، وبدأ العمل بالفعل فى التاسع من يناير عام 1960 وشمل حفر قناة التحويل والأنفاق وتبطينها بالخرسانة المسلحة ، وصب أساسات محطة الكهرباء وبناء السد حتى منسوب 130 متر، وفى منتصف مايو عام 1964 تم تحويل مياه النهر إلى قناة التحويل والأنفاق ، وإقفال مجرى النيل والبدء فى تخزين المياه بالبحيرة .
وفى المرحلة الثانية تم الاستمرار فى بناء جسم السد حتى نهايته ، وإتمام بناء محطة الكهرباء وتركيب التوربينات وتشغيلها ، مع إقامة محطات المحولات وخطوط نقل الكهرباء ، وانطلقت الشرارة الأولى من محطة كهرباء السد العالى فى أكتوبر 1967 ، وبدأ تخزين المياه بالكامل أمام السد منذ عام 1968 ، وفى منتصف يوليو 1970 اكتمل صرح المشروع ، وفى 15 يناير 1971 تم الاحتفال بافتتاح السد العالى فى عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات .
والسد العالى هو سد ركامى على نهر النيل فى مدينة أسوان جنوب مصر ، يبلغ طوله عند القمة 3830 مترا منها 520 مترا بين ضفتى النيل ويمتد الباقى على هيئة جناحين على جانبى النهر ، ويبلغ ارتفاع السد 111 مترا فوق منسوب قاع نهر النيل وعرضه عند القمة 40 مترا ، وحجم جسم السد 43 مليون متر مكعب من أسمنت وحديد ومواد أخرى ، ويمكن أن يمر خلال السد تدفق مائى يصل إلى 11 ألف متر مكعب من الماء فى الثانية الواحدة .
وتقع محطة الكهرباء على الضفة الشرقية للنيل ، معترضة مجرى قناة التحويل التى تنساب منها المياه إلى التوربينات من خلال ستة أنفاق مزودة ببوابات للتحكم فى المياه بالإضافة إلى حواجز للأعشاب وتنتج محطة الكهرباء طاقة كهربائية تصل إلى 10 مليار كيلووات/ساعة سنويا ، وتشكل المياه المحجوزة خلف السد بحيرة صناعية هائلة وهى بحيرة ناصر التى يبلغ طولها 500 كيلومتر ومتوسط عرضها 12 كيلومتر ، حيث تغطى منطقة النوبة المصرية بأكملها وجزء من النوبة السودانية ، وتبلغ سعة التخزين الكلية للبحيرة 162 مليار متر مكعب من المياه ، وسعة التخزين الميت 32 مليار متر مكعب وتعنى عبارة “التخزين الميت” كمية المياه التى لا يمكن نقلها من خلال فتحات السد ، حيث تقع هذه الكمية أسفل منسوب فتحة جسم السد .
وقدرت التكلفة الإجمالية لمشروع السد العالى بنحو 450 مليون جنيه مصرى أو ما يوازى آنذاك نحو مليار دولار ، وكان سعر صرف الجنيه المصرى يساوى 2.3 دولار مع بداية الربط بين العملتين عام 1962 ، وقد ساهم الاتحاد السوفيتى السابق بنسبة مهمة من تلك التكلفة .
وقد حمى السد العالى مصر من الفيضان والجفاف ، حيث أن بحيرة ناصر تقلل من اندفاع مياه الفيضان وتقوم بتخزينها بشكل دائم للاستفادة منها خلال سنوات الجفاف ؛ وأسهم أيضا فى زيادة مساحة الرقعة الزراعية بمصر من 5.5 إلى 7.9 مليون فدان ؛ كما ساعد على زراعة محاصيل أكثر استهلاكا للمياه مثل الأرز وقصب السكر ؛ بالإضافة إلى أنه أدى إلى تحويل المساحات التى كانت تزرع بنظام الرى الحوضى إلى نظام الرى الدائم .
وقد وفر السد العالى الطاقة الكهربية وأدى إلى زيادة الثروة السمكية عن طريق بحيرة ناصر ، وكذلك تحسين الملاحة النهرية طوال العام ، وقد حمى السد أيضا مصر من كوارث الجفاف والمجاعات فى سنوات الفيضانات الشحيحة مثل الفترة من عام 1979 إلى عام 1987 ، حيث تم سحب ما يقرب من 70 مليار متر مكعب من مخزون بحيرة ناصر لتعويض العجز السنوى فى الإيراد الطبيعى لنهر النيل ، كما حمى السد مصر من أخطار الفيضانات العالية التى حدثت فى الفترة من عام 1998 إلى 2002 .
وأخيرا فى تقرير صدر عن الهيئة الدولية للسدود والشركات الكبرى قُيم السد العالى فى الصدارة فى كافة المشروعات ، وذكر التقرير أنه تجاوز ما عداه من المشروعات الهندسية المعمارية واختارته الهيئة الدولية كأعظم مشروع هندسى شُيد فى القرن العشرين عابرا كافة المشروعات العملاقة الأخرى مثل مطار “شك لاب كوك” فى هونج كونج و“نفق المانش” الذى يربط بين بريطانيا وفرنسا .
كما أكد التقرير الدولى أن السد العالى تفوق على 122 مشروعا عملاقا فى العالم شُيدت خلال القرن العشرين لما حققه من فوائد عادت على الجنس البشرى ، حيث وفر لمصر رصيدها الاستراتيجى من المياه بعد أن كانت مياه النيل من أشهر الفيضانات التى تذهب سُدى فى البحر المتوسط عدا خمسة مليارات متر مكعب من المياه يتم احتجازها .
د. مجدى عبدالله
mhamed754@yahoo.com