المقالات

الوجه الآخر لجائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)

بقلم/ د.مجدى عبدالله

على مدار الأربعة قرون الماضية تتعرض البشرية إلى أمراض كثيرة كان لها تأثير بالغ فى سقوط عدد كبير من الناس حول العالم ، وحصدت هذه الأمراض من الضحايا ما يفوق الحربين العالميتين الأولى والثانية وحروب أخرى من خلال مخلوقات مجهرية ميكروسكوبية (فيروسات) مثل الطاعون والكوليرا والأنفلونزا بأنواعها المختلفة وصولا إلى فيروس كورونا ، فالعالم يعيش الآن كابوس الوباء رقم 18 فى تاريخ البشرية ، إنه كابوس فيروس كورونا الجديد الذى يحمل نمطا متطورا (كوفيد 19) .
والفيروسات مفردها فيروس (virus) وهى كلمة لاتينية وتعني في اليونانية (سم) ، والفيروس كائن صغير لا يمكنه التكاثر اٍلا داخل خلايا كائن حي آخر ، والفيروس صغير الحجم جدا لا يمكن مشاهدته بالميكروسكوب الضوئى ولكن يمكن ذلك بالميكروسكوب الإلكترونى ، وهو يصيب جميع أنواع الكائنات الحية من الإنسان والحيوان والنبات إلى البكتريا .
وعلم الأوبئة الفيروسي هو فرع من العلوم الطبية يتعامل مع الانتقال والسيطرة على العدوى الفيروسية بين البشر ، ويمكن أن يكون انتقال الفيروسات عمودي وذلك من الأم إلى الطفل أو أفقي من شخص لآخر، ومن أمثلة الانتقال العمودى التهاب الكبد الوبائى ب وفيروس نقص المناعة البشرية ، أما الانتقال الأفقى فهو الآلية الأكثر شيوعا لانتشار الفيروسات في المجتمعات ، ومن أشهر الأمراض الفيروسية التي تصيب الإنسان الزكام ، الانفلونزا ، الهربس ؛ والكثير من الأمراض الخطيرة مثل إيبولا ، إنفلونزا الطيور ، السارس وأخيرا كورونا المستجد (كوفيد 19) .
ويتفاوت حجم جزيئات الفيروسات فأصغرها حجما هو فيروس مرض الحمى القلاعية وفيروس مرض شلل الأطفال (10 و 12 nm) على الترتيب بينما أكبرها حجما فيروس كورونا المستجد (400nm) ، في حين يبلغ قطر اصغر الخلايا البكتيرية (500nm) ، وكرية الدم الحمراء (7500 نانومتر) .
وفى الأول من يناير أبلغت الصين منظمة الصحة العالمية عن ظهور أولى حالات إلتهاب رئوى لأسباب غير معروفة ، وفي الخامس من الشهر نفسه أبلغت المنظمة بشكل رسمي جميع الدول الأعضاء بهذا المرض ، وفي العاشر من ذات الشهر أصدرت المنظمة إرشادات للدول بشأن كيفية التحقق من الحالات المحتملة واختبارها وحماية العاملين الصحيين ، وفي النصف الثاني من شهر يناير أعلنت أن فيروس كورونا هو حالة طوارىء صحية تثير قلقا دوليا ، وهو أعلى مستوى من مستويات الإنذار ، فهو العدو الوحيد الآن الذي يهدد البشرية بأكملها وهو كوفيد-19 .
وقد وصفت منظمة الصحة العالمية مرض فيروس كورونا بالجائحة وهو أعلى درجات الخطورة فى إنتشاره وقوته على مستوى العالم ، لذلك وضعت إجراءات ملزمة لكافة الدول ، على حين أن الوباء يعنى إنتشار مرض معين بصورة قوية فى منطقة جغرافية محددة ، ويكون دور المنظمة المراقبة والتوجيه ، وبالنسبة للأمراض المتوطنة فهى التى تكون خاصة بدولة معينة وعليها محاربة المرض ، ويكون دور المنظمة المساعدة والمشورة فقط ، ولأن فيروس الكورونا يوجد العشرات من جيناته المختلفة فى الطبيعة فقد أطلق على هذا الجين الأشد خطورة وفتكا كورونا المستجد أسم كوفيد-19 (COVID-19) وهو اختصار Disease Corona Virus ، و 19 ترجع لأول إصابة به فى ديسمبر 2019 .
وإذا كانت الإصابات المؤكدة بفيروس كورونا على مستوى العالم قد قاربت المليونان إصابة كما أنه قد أودى بحياة ما يزيد عن المائة ألف وفاة ، ومازال يحصد آلاف البشر بالرغم من العزل المنزلى الذى اتبعته كل دول العالم ليصل ما يزيد عن ثلثى سكان الكرة الأرضية قابعا تحت حصار الحجر الصحي ، أو في تأمين أو عزل ذاتى ، وكثيرون غير قادرين على التواجد مع عائلاتهم ، وفي الوقت نفسه تم إغلاق آلاف الكنائس والمساجد وأماكن العبادة الأخرى ، حيث تحولت الاحتفالات الدينية والصلاة إلى المنصات الرقمية ، كما تم تعطيل المدارس والجامعات فى كل بقاع المعمورة ليصل تعداد الطلاب الذين تركوا مدارسهم وجامعاتهم وظلوا تحت الحجر إلى ما يقرب من النصف مليار .
نجد أن فيروس كورونا (كوفيد-19) قد غيّر العالم بشكل كبير في فترة زمنية قصيرة ، فحسب منظمة العمل الدولية فإن 195 مليون شخص قد يخسرون وظائفهم في العالم بسبب جائحة كورونا ، فتداعياتها على الاقتصاد تفوق سوءا أزمة 2008-2009 المالية ، وقد أفاد تقرير للمنظمة بأنه بصرف النظر عن مكان الإقامة في العالم وعن قطاع التوظيف ، فإن الأزمة تلقي بآثار دراماتيكية على القوى العاملة في جميع أنحاء العالم ، فنحو ملياري شخص يعملون في وظائف غير رسمية معظمهم في الدول النامية ، وعشرات الملايين منهم قد تأثروا بسبب كوفيد-19، وعلى الرغم من أنه لم يتم استشعار تأثير الفيروس على القطاع الزراعي وهو أكبر قطاع في الدول النامية حتى الآن ، فإن مخاطر انعدام الأمن الغذائي بدأت تظهر بحسب المنظمة ، ويعود ذلك إلى إجراءات الاحتواء ومن بينها إغلاق الحدود ، ومع مرور الوقت فإن العمّال في هذا القطاع قد يتأثرون بشكل كبير وخاصّة إذا تفشّى المرض في المناطق الريفية ، وطبقا لتقرير المنظمة نجد أن الدول العربية وأوروبا هى أكثر مناطق العالم المتأثرة اقتصاديا بسبب الجائحة .
ومع توقف الاقتصاد العالمي ، والانخفاض العام في التجارة العالمية ، وإلغاء الآلاف من الرحلات الجوية ، وبقاء الأشخاص في منازلهم ، يولي علماء المناخ اهتمامًا وثيقًا للأقمار الصناعية وبيانات الصناعة لمعرفة كيفية تأثير الاستجابة لذلك الفيروس (COVID-19) على كوكبنا ، ليظهر الوجه الآخر لوباء كورونا والذى نجد له تأثير إيجابي على البيئة ، فقد أظهرت بعض التحليلات انخفاض الانبعاثات من الصين في الأسابيع التي تلت تضرر البلاد بشدة من الفيروسات التاجية الجديدة خلال تلك الفترة نتيجة لانخفاض استهلاك الفحم وتباطأ تكرير النفط بالإضافة إلى توقف العديد من الصناعات والكثير من الرحلات الجوية ، حيث سجل القمر الصناعي الأوروبى كوبرنيكوس انخفاضًا كبيرًا في NO2 والذى مصدره محطات الطاقة والمصانع والمركبات في جميع المدن الصينية الرئيسية بين أواخر يناير وفبراير ، كما لاحظت وكالة الفضاء الأوروبية انخفاضًا بنسبة تتراوح بين 20 و 30 في المائة في الجسيمات الدقيقة ، وهي واحدة من أهم ملوثات الهواء في فبراير 2020 مقارنة بالسنوات الثلاث السابقة ، وأيضا قد أظهرت صور الأقمار الصناعية الصادرة عن وكالة ناسا انخفاضًا كبيرًا في انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين ، تلك الصادرة عن المركبات ومحطات الطاقة والمنشآت الصناعية في المدن الصينية الرئيسية بين يناير وفبراير ، واختفت السحابة المرئية للغازات السامة المعلقة على القوى الصناعية ؛ ومنذ اليوم الأول للهند في حالة الإغلاق سجلت محطات مراقبة التلوث أدنى قراءات لثاني أكسيد النيتروجين لتتراجع بنسب تصل إلى 70% .
ومع انتشار الفيروس في جميع أنحاء العالم ، أغلقت اقتصادات أخرى أيضًا ، مما قلل من استهلاك الوقود الأحفوري وتلوث الكربون ويظهر تحليل أجرته وكالة الفضاء الأوروبية أن انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين فوق إيطاليا قد انخفضت تزامنا مع الإغلاق وانخفاض حركة المرور والأنشطة الصناعية ، بالإضافة إلى انخفاض تلوث الهواء المرتبط بالمرور في شمال إيطاليا وفرنسا وإسبانيا ، وأيضا لوحظ انخفاض استهلاك الكهرباء في إيطاليا بنحو 20 في المائة ، وبنسبة 10 في المائة في كل من إسبانيا وفرنسا ؛ وبعد توقف أوروبا بسبب فيروس كورونا أظهرت صور قمر وكالة الفضاء الأوروبية كوبرنيكوس انخفاضًا كبيرًا في تركيزات ثاني أكسيد النيتروجين فوق باريس ومدريد وروما في الفترة من 14 إلى 25 مارس ، مقارنة بنفس الأسبوع في عام 2019 .
وفي نيويورك انخفضت مستويات أول أكسيد الكربون بنحو 50% عن العام السابق وفقًا لتحليل علماء جامعة كولومبيا ومن المحتمل أن يكون هذا بسبب انخفاض حركة المرور ، حيث أن السيارات والشاحنات هي المصدر الرئيسي لأول أكسيد الكربون في الولاية ، كما تظهر بيانات وكالة ناسا الفضائية انخفاضًا بنسبة 30 بالمائة في تلوث الهواء فوق شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية ، وبعد تفاقم الوضع في جميع أنحاء الولايات كشفت قياسات وكالة ناسا الفضائية عن انخفاضات كبيرة في تلوث الهواء في المناطق الحضرية الرئيسية في شمال شرق الولايات المتحدة ، وقد لوحظ أيضا تخفيضات مماثلة في مناطق أخرى من العالم ، ولقد جاءت هذه التحسينات الأخيرة في جودة الهواء بتكلفة عالية ، حيث تكافح المجتمعات المحلية مع عمليات الإغلاق الواسعة النطاق نتيجة لانتشار COVID-19 .
ومن ناحية أخرى لاحظ سكان مدينة البندقية الإيطالية تحسنا كبيرا في جودة مياه القنوات الشهيرة التي تمر عبر المدينة ، وفرغت شوارع الوجهات السياحية الشهيرة في شمال إيطاليا وسط تفشي المرض ، مما أدى إلى انخفاض حاد في حركة المياه وسمح ذلك للرواسب بالاستقرار ، وأصبحت المياه التي عادة ما تكون عكرة واضحة لدرجة أنه يمكن رؤية الأسماك فيها .
وبناء على كل هذه الدراسات والنتائج نجد أن هذه فرصة لنرى كيف يمكننا إعادة تنظيم أنشطتنا لصالح المناخ ، فإذا كان كوفيد-19 هو التهديد الأكثر إلحاحًا الذي يواجه البشرية اليوم ، فإنه لا يمكننا أن ننسى أن تغير المناخ هو أكبر تهديد يواجه الإنسانية على المدى الطويل ، ففى حين أن التلوث الذي تم استنشاقه في الماضي لا يزال يسبب ضررًا اليوم ، فإن التجربة المؤقتة للهواء النظيف الناتجة عن عمليات الإغلاق واسعة النطاق قد تقدم دروسًا لنوع العالم الذي يجب بناءه بعد الوباء .

د.مجدى عبدالله
mhamed754@yahoo.com

الوسوم