فى هذه الأيام المباركة من شهر رمضان الكريم يطُل علينا واحد من علماء مصر وقوتها الناعمة وأصغر مصرى حمل لقب دكتور في الهندسة باعماله الضخمة وإشرافه على أعمال توسعة الحرمين الشريفين المكى والنبوى ، إنه محمد (بك) كمال إسماعيل (13 سبتمبر – 2 أغسطس 2008 ) ، وهو دكتور مهندس مصرى ولد في مدينة ميت غمر بمحافظة الدقهلية في الثالث عشر من سبتمبر عام 1908، حيث درس فى مدرسة المدينة الابتدائية مبدياً تفوقاً ونبوغاً لافتا للأنظار ، بعدها انتقلت أسرته إلى مدينة الإسكندرية ليضعوا ترحالهم بها وليزداد إحساسه بالجمال فيها عمقاً كما كان يقول ، وهناك بجوار البحر المتوسط والثروة المعمارية ذات الملامح الأوروبية للمدينة أنهى تعليمه الثانوى فى مدرسة العباسية ، ليكون القرار بعدها بالتوجه لقاهرة المعز للالتحاق بجامعتها “جامعة فؤاد الأول” ودراسة الهندسة بها.
وكان واحداً من بين أفراد دفعته التي لم يتعد عددها سبعة دارسين ، وعلي الرغم من أنه تتلمذ علي يد أساتذة من إنجلترا وسويسرا درسوا له في الجامعة فنون العمارة العالمية إلا أنه تأثر بشدة بفن العمارة الإسلامية ليبدع فيه عقب التخرج ويكون ملهمه لعمل دراسة شاملة عن المساجد المصرية.
وأيضاً كان أصغر من حصل على الثانوية في تاريخ مصر ، وأصغر من دخل مدرسة الهندسة الملكية الأولى ، وأصغر من تخرج فيها ، وأصغر من تم ابتعاثه إلى أوروبا للحصول على ثلاث شهادات للدكتوراه في العمارة الإسلامية ، كما كان أول مهندس مصرى يحل محل المهندسين الأجانب في مصر ، وكان أصغر من حصل على وشاح النيل ورتبة البكوية من الملك ، وهو الذى قام على تخطيط وتنفيذ توسعة الحرمين التي أمر بها خادم الحرمين الملك فهد وشهد عهده أكبر توسعة للحرمين في تاريخ الإسلام وعلى امتداد 14 قرنا .
وبعد حصوله علي بكالوريوس الهندسة من جامعة فؤاد الأول في مطلع ثلاثينيات القرن الماضى ، سافر محمد كمال إسماعيل إلي فرنسا للحصول علي الدكتوراة التي حصل عليها للمرة الأولي في العمارة من مدرسة بوزال عام 1933، ليكون بذلك أصغر من يحمل لقب دكتور في الهندسة ، تلاها بعدها بسنوات قليلة بدرجة دكتوراة أخرى في الإنشاءات وليعود إلي مصر ويلتحق بالعمل في مصلحة المباني الأميرية التى شغل منصب مديرها فى عام 1948، وكانت المصلحة وقتها تشرف علي بناء وصيانة جميع المبانى والمصالح الحكومية ، ليصممم العديد من الهيئات منها دار القضاء العالى ، ومصلحة التليفونات ، ومجمع المصالح الحكومية الشهير بمجمع التحرير الذي أنشئ عام 1951 بتكلفة 200 ألف جنيه بالنسبة للإنشاءات ومليون جنيه بالنسبة للمبانى التي بلغ ارتفاعها 14 طابقا .
وكان لتصميم المبنى علي شكل القوس دوراً في تحديد شكل ميدان التحرير وما تفرع منه من شوارع ، وفي تلك الفترة قدم دكتور محمد كمال إسماعيل للمكتبة العربية والعالمية موسوعة مساجد مصر في أربع مجلدات عرض فيها تصميمات المساجد المصرية وطرُزها وسماتها المعمارية التى تعبر كل منها عن مرحلة من مراحل الحضارة الإسلامية ، وقد طبعت تلك الموسوعة فيما بعد فى أوروبا ونفدت فلم يعد منها أى نسخ سوى في المكتبات الكبرى ، وقد كانت تلك الموسوعة سببا أيضاً في حصوله علي رتبة البكوية من الملك فاروق تقديراً لجهوده العلمية فى تقديمها .
وكان من أبرز البصمات التي تركها الدكتور إسماعيل ـ دون أن يعلم الكثير أنه صاحبها ـ كانت إشرافه على أعمال توسعة الحرمين الشريفين المكى والنبوى وبناء مجمع الجلاء ـ أو التحرير ـ للمصالح الحكومية ، ودار القضاء العالى ، ومسجد صلاح الدين بالمنيل خاصة أنه كان شديد التأثر بفن العمارة الإسلامية ، وحصل علي «البكوية» من الملك فاروق ومُنح جائزة الملك فهد للعمارة .
وقد أشرف على توسعة الحرمين ، الحرم النبوى والتى تمت بمعدل سبعة أضعاف لتزيد مساحته من 14 ألف متر مربع إلي 104 آلاف متر مربع ، بينما تمت توسعة الحرم المكي لتزداد من 265 ألف متر مربع إلى 315 ألف متر مربع ، وهي التوسعات التي لم تتضمن فقط توسعة الحرمين ، ولكنها شملت مشروعات تكييف المكان وتغطيته بالمظلات والقباب ، وعندما لاحظ شكوى العاملين من سخونة الأرض قال: فما بال الحجاج؟ واليوم يتعجب الحجاج من برودة الرخام الذي يسعون فوقه ، وكان كمال إسماعيل قد فتش حتي وجد نوعا من الرخام اليونانى (تاسوس) يمتص الرطوبة ليلا عبر مسام دقيقة ثم يقوم في النهار بإخراج ما امتصه ليلا ، وكان السائد أن يكون سمك طبقة البلاط فوق أى أرض سنتيمترا واحدا لكن كمال اسماعيل قام بوضعه بسمك 5 سنتيمترات ، وبحثا عن جماليات اللون فكر في حرق الجرانيت ليمنحه لونا به مسحة روحانية مضيئة حيرت كثيرين ، واجتهد كثيرا في إذابة الفارق بين آخر توسعات حدثت قبل خمسين عاما والتوسعات الجديدة التي أدخل فيها أحدث التكنولوجيا لتوفر الراحة للمصلين في مختلف أيام العام ، وذلك من خلال استخدامه ميكانيزم فتح وقفل الأسقف أوتوماتيكيا بواسطة إثنى عشر مظلة من التفلون علي شكل خيمة مساحة كل منها 306 متر مربع وهى أكبر مساحة خيمة في العالم علي عمود واحد ، واستعمال سبعة وعشرين مساحة كل منها 1818 مترا لحماية المصلين فلا تشعر في هذا المكان المقدس بأى نشاز هندسى أو بصرى فى التكييفات والمظلات والقباب والواجهات والأرضيات ، بالإضافة إلي جراج للسيارات يسع لنحو 5000 سيارة تحت الأرض ، وكانت تكلفت هذه الإنشاءات نحو 18 ألف مليون دولار حيث قد بدأت عملية التوسيع فى عام 1982 واستمرت لمدة 13 عاماً انتهت بهذا الإبداع الذى كُرم عليه بمنحه جائزة الملك فهد للعمارة الإسلامية اعترافا بجهوده فى أعمال الحرمين.
وانشغل الدكتور محمد كمال إسماعيل بحياته العملية عن مثيلتها الخاصة لينسى حتى فكرة الزواج إلى أن اتخذ قرار الارتباط فى عام 1952، وهو في الرابعة والأربعين من العمر لينجب ابناً واحداً وكان له حفيدان ومع رحيل الزوجة فى عام 2002 ، ورحيل غالبية أصدقائه أيضاً ، زادت حالة الانعزال التي عاشها المهندس محمد كمال إسماعيل فى آخر حياته خاصة بعد أن كان قد بلغ الخامسة والتسعين من عمره حتى رحل عام 2008 عن عمر يناهز المائة عام .
د. مجدى عبدالله
mahamed71954@gmail.com