المقالات
الاحتفال بيوم البيئة العالمى فى ظل جائحة كورونا
أستخلصت دراسة حديثة أجرتها جامعة شيكاغو بشأن تغير المناخ أنه بحلول عام 2100 ستقتل التغيرات المناخية ما يقرب من عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب السرطان والأمراض المعدية هذه الأيام، وكما هو الحال مع موجات الحر الأوروبية فإن الأضعف في المجتمعات سوف يتحملون العبء الأكبر ، وقد خلصت الدراسة إلى أن الفقراء هم من سيتحملون نسبة عالية بشكل غير متناسب من مخاطر الوفيات العالمية الناجمة عن تغير المناخ .
لكن السؤال هو هل ستؤدى الجهود المبذولة لإنعاش الاقتصاد العالمي بعد الوباء إلى تسريع انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بدلاً من تجنب تغير المناخ؟ وأجيب فى إعتقادى أن ذلك سيعتمد على ما إذا كانت الاقتصادات الكبرى في العالم مثل الصين والولايات المتحدة سوف تستخدم هذه اللحظة لتفعيل سياسات النمو الأخضر أو الاستمرار في دعم صناعات الوقود الأحفورى .
وفي حين أن حركة السيارات والطائرات وكذلك النشاط الصناعي قد انخفضت بشكل حاد في معظم أنحاء العالم منذ يناير 2020 ، إلا أن هذا ليس هو الحال مع إمدادات الكهرباء فطبقا لتوقعات منظمة الطاقة العالمية لعام 2019 نجد أن لدينا 64% من مزيج الطاقة الكهربائية العالمية يأتي من الوقود الأحفوري (38% من الفحم ، 23% من الغاز ، 3% من النفط) ، وأيضا نجد أن أنظمة التدفئة تعمل كما كان من قبل COVID-19ولم يتغير أي من الأساسيات مثل التحول إلى الطاقة المتجددة والنقل العام وإزالة الغابات ، وكذلك حرائق الغابات التى لا تزال تؤثرعلى مساحات شاسعة من البرازيل وهندوراس وميانمار وتايلاند وفنزويلا والتي تنبعث منها كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون الإضافي ، فبدون تحولات أساسية في إنتاج الطاقة العالمي لا ينبغي أن يكون لدينا سبب لتوقع انخفاض دائم في الانبعاثات .
ونجد أيضا أن COVID-19 يوفر لنا فرصة لتقييم المخاطر التي نتحملها في علاقتنا غير المستدامة مع بيئتنا واغتنام الفرصة لإعادة بناء اقتصاداتنا بطرق أكثر مسؤولية بيئيًا ، كما يجب أن نأخذ في الاعتبار جديًا التهديدات العالمية مثل الأوبئة وكارثة المناخ من أجل بناء أسواق وشركات ودول وأنظمة عالمية مرنة ومستقبل صحي ومستدام للجميع ، وفى الأيام القادمة سيحتفل برنامج الأمم المتحدة للبيئة بيوم البيئة العالمى فى الخامس من يونيو احتفالا بالتنوع البيولوجى تحت موضوع TIME FOR NATURE “حان الوقت للطبيعة” والذى يبرز كيفية تقديم الطبيعة خدمات حيوية للبشرية والحاجة الملحة لوقف تدميرها، وكان من المفترض أن يكون هذا العام من شأنه أن يسفر عن اتفاقيات ضرورية للغاية حول التنوع البيولوجي والمحيطات وتغير المناخ ، مدفوعًا بزيادة الوعي بقيمة الطبيعة في عالمنا الحديث ، لكن يبدو أن الفيروس التاجي قد غير كل ذلك وأعتقد أنه سيتم إعادة جدولة القمم التفاوضية للصفقات البيئية الجديدة إلى الأعوام القادمة ، لنجد أنفسنا نعيش فى أوقات غريبة ومخيفة وملفتة للاهتمام لم نعشها من قبل ، فإن مشاهدة وباء كوفيد– 19 ينمو ويصبح جائحة عالمية ينقلنا إلى عالم خيالي من أفلام الرعب ، إنه يجعل الكارثة قريبة من منزلنا بل ومن الناس الذين نعرفهم ونحبهم لنجد أن الشجاعة والإيثار والجهل والخوف كلها مشاعر تظهر على الشاشة حاليا بل وفي قلوبنا.
ومع ذلك وبينما نستعد للاحتفال بيوم البيئة من الحجر الصحي فإننى أرى أننا بحاجة إلى الاعتناء ببعضنا البعض والعناية بشكل أفضل بالمنزل الذي نتشارك فيه جميعًا وهو كوكب الأرض ، فقد كشفت أزمة COVID-19 مدى ضعفنا وتذكيرنا بأنه لا يمكننا أن نأخذ طريقة حياتنا الحالية كأمر مسلم به أو نواصل تأجيل الخيارات الصعبة حول التحديات التي نواجهها ، فأزمة اليوم ما هى إلا أزمة بيئية ناجمة عن التصادم بين الأنظمة البشرية والطبيعة ، فقد أدت إزالة الغابات والامتداد الحضرى وأسواق الحياة البرية التي تجعل البشر قريبين جدًا من الحياة البرية ، ما أدى إلى تسهيل انتقال مسببات الأمراض من الحيوانات إلى البشر ، ثم ارتدادها حول العالم من خلال التجارة والسفر ، بالإضافة إلى المعدلات الحالية لإزالة الغابات وتدهور الأراضي وانبعاثات الكربون وتلوث الهواء وتحمض المحيطات ، كل هذا جعل الكوكب غير صالح للسكن .
وبينما يخطط العالم للتعافي من جائحة الفيروسات التاجية نجد أن لدينا فرصة عميقة لتوجيه العالم على مسار أكثر استدامة وشمولًا ، مسارا يعالج تغير المناخ ويحمي البيئة ويعكس فقدان التنوع البيولوجي ويضمن الصحة على المدى الطويل ، بالإضافة إلى معالجة الآثار السلبية لكوفيد-19 على صحة الإنسان والكوكب والتى تأتى من ارتفاع في كميات النفايات الخطرة مثل معدات الحماية الشخصية والالكترونيات والأدوية بالإضافة إلى كميات كبيرة من مياه الصرف الصحي وضخامة فى استخدام المنظفات والمطهرات ومضادات الميكروبات ، مع وجوب تحقيق الهدفين الرئيسيين من أهداف التنمية المستدامة المتعلقين بالتنوع البيولوجي وهما الهدف 14 الخاص بالحياة تحت الماء ، والهدف 15 الخاص بالحياة فوق الأرض .
إن الحفاظ على النظم البيئية السليمة والتنوع البيولوجي سيساعدنا على الحد من انتشار الأمراض والأوبئة الفيروسية ، ففقدان التنوع البيولوجي أصبح محركًا كبيرًا في ظهور بعض من هذه الفيروسات نتيجة إزالة الغابات على نطاق واسع وتدهور الموائل وتفتتها وتكثيف الزراعة ونظامنا الغذائي والاتجار بالحيوانات والنباتات وتغير المناخ الناشئ عن الأنشطة البشرية ، كلها عوامل دافعة لفقدان التنوع البيولوجي، وأيضاً محركات للأمراض الجديدة لنجد أن ثلثي الإصابات والأمراض الناشئة تأتي الآن من الحياة البرية ، فبالنسبة لعلماء الأوبئة نجد أن جائحة COVID-10 ليست مفاجأة حقيقية لهم فهى قريبة جدا من فيروس السارس الذي يزدهر في الخفافيش ، ونجد أن أسواق الحياة البرية هي كابوس ومثال لسوء معاملة الأنواع الأخرى مع ظروف مروعة غير صحية فهى مجرد وعاء مثالي للفيروس ليقفز من الخفاش البري إلى حيوان بعد وقت قصير من اكتسابه واستهلاكه ليقفز فى النهاية إلى البشر ، ومع زيادة فقدان الموائل والتنوع البيولوجي عالميًا قد يكون تفشي الفيروس التاجي الجديد مجرد بداية لأوبئة جماعية حيث تقدر المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها أن ثلاثة أرباع الأمراض الجديدة أو الناشئة والتى تصيب البشر تنشأ أولا في الحيوانات .
وتوضح لنا جائحة كوفيد – 19 أهمية مجموعة الميكروبات المتعايشة مع الانسان او مع الاحياء الاخرى كعنصر من عناصر التنوع البيولوجي ، وتعتبر الفيروسات جزءًا كاملاً من مجموعة متنوعة من أشكال الحياة على الأرض ، ونجد أيضا إن كوفيد – 19 هو أحد عناصر التنوع البيولوجي وهو في الواقع شكل من أشكال الحياة البرية ، وإن لم يكن نوع الحياة البرية الذي اعتدنا على التفكير فيه ؛ كما تذكرنا الجائحة بأن الطبيعة ليست صديقة للبشر أو مهتمة بنا فهى نوع من الأنواع الغازية التي تسبب ضررًا كبيرًا للمجتمعات البشرية ، فالفيروسات المسببة للأمراض هي جزء من الجانب المظلم للطبيعة ؛ ويوضح لنا تفشي الجائحة أن العلوم والابحاث العلمية مهمة لتطوير اللقاحات والأدوية المضادة للفيروسات ؛ وتكشف لنا أيضا أن النظام الاقتصادي العالمي قابل للتغيير ففى ظل هذه الظروف المأساوية التى نعيشها تم تخفيض تلوث الهواء في العالم كله بنسب متفاوته وبشكل كبير ، وزعزعة استقرار قطاع الوقود مع انخفاض القاع المالي لصناعة النفط ؛ ومع تعليق السفر العالمي على نطاق واسع وإلغاء الأحداث الرئيسية نتيجة هذه الجائحة ، قد لا يكون هناك مؤتمر عالمي للحفظ في فرنسا في يونيو ، وربما لا يوجد اجتماع للأطراف في اتفاقية التنوع البيولوجي التقليدية في الصين في أكتوبر ، أو مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في اسكتلندا في شهر نوفمبر ، حتى إذا تم تشغيل هذه الأحداث فسوف تتعطل جميع المفاوضات والاجتماعات التمهيدية، مما يحد من الآمال في اتفاقيات ما بعد 2020 ، فجائحة COVID-19 هى أخطر تحذير صدر عن الكوكب يحث البشرية على تغيير المسار فوقف الأنشطة الاقتصادية ليس إلا استجابة قصيرة المدى ، وهذا لا يمكن أن يستمر بل يمكن لدول العالم أن تزدهر من خلال بناء أنظمة اقتصادية تحترم الطبيعة وليست معادية لها ، وللحديث بقية .
د. مجدى عبدالله
mhamed754@yahoo.com