المحطات النووية والرهبة الزائفة

بقلم _ د. على عبد النبى

منذ بدء الخليقة والإنسان فى حاجة إلى الطاقة كعنصر أساسي للمتطلبات الحياتية للناس، وقد كانت النار هى مصدر الطاقة الأولى الذى استعان به الإنسان لقضاء تلك المتطلبات من طهى للطعام وخلافه …
يقول الله تبارك وتعالى ” أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ …  أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ …  نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ” سورة الواقعة الآية 73.
فهى من ناحية تذكرة بنار الآخرة، وقانا الله وإياكم عذابها، وهى من ناحية أخرى متاع للمقوين أى المسافرين، وفى الحضر من باب أولى.
وكان للعرب شجرتان – إحداهما تسمى (المرخ) والأخرى تسمى (العفار)، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار.
ونستطيع القول أن مصادر الطاقة تطورت على مرّ الزمان نتيجة الاكتشافات المتعاقبة لمصادر الطاقة. وكان على رأس تلك الاكتشافات الطاقة الكهربائية كمصدر متكامل لحاجات الإنسان، فى كل مناحى الحياة، وأصبح الشغل الشاغل للعلماء والباحثين البحث عن المصادر المختلفة لإنتاج الكهرباء للحصول على الطاقة من ناحية، ومن ناحية أخرى باعتبارها القوة المحركة لإدارة الآلات على اختلاف أنواعها.
وكما ذكرنا، فقد تنوعت هذه المصادر حتى وصلت إلى استخدام الطاقة النووية كمصدر لتوليد الكهرباء.
والمعروف بحسب طبيعة الأشياء فإن الاستخدام يكون على نحو ما يستهدفه المستخدم، إما خيراً .. وإما شراً، وقديما قال الناس إن السكين على سبيل المثال يمكن استعمالها فى تقطيع اللحوم والخضروات والاستخدامات المنزلية التى لا يستغنى عنها أحد. ولكن للأسف يمكن استخدامها فى الاعتداء على الآخرين بالقتل أو الإصابة، وهذه طبيعة الأشياء كما ذكرنا آنفاً.
كذلك الحال بالنسبة للطاقة النووية كمصدر للطاقة، فقد قامت بعض الدول باستخدام التكنولوجيا النووية فى تصنيع الأسلحة المدمرة كالقنابل الذرية والهيدروجينية، وليس بخافٍ على أحد ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية من ضرب مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين بالقنابل الذرية إبان الحرب العالمية الأولى أعوام 1939 – 1945من القرن الماضى، وما ترتب على ذلك من قتل ملايين البشر.
ذلك هو الجانب السلبى فى استعمال التكنولوجيا النووية، أما الجانب الايجابى الذى تسخّر فيه هذه التكنولوجيا فى خدمة الإنسان فقد تمثل فى الاستخدام السلمى للطاقة النووية فى إنتاج الكهرباء من المحطات النووية.
وقد أقبل العديد من دول العالم على استخدام المحطات النووية فى توليد الكهرباء وبناء الكثير منها، ففى الولايات المتحدة هناك (98) محطة نووية، وفى روسيا (36) محطة نووية، وفى ألمانيا (7) محطة نووية، وفى فرنسا (58) محطة نووية، وفى الصين (46) محطة نووية، وفى الهند (22)محطة نووية، وفى باكستان (5) محطة نووية.
وبالرغم من أن الجرعة الاشعاعية التى يتعرض لها المقيمون بجوار المحطات النووية أو العاملين فيها لا تعدو 0.02 مللى ريم فى العام، إلا أن الاستخدام السلبى للطاقة النووية فى صنع القنابل المدمرة – على نحو ما أسلفنا – بالإضافة إلى الحوادث النووية الثلاث المعروفة قد تسببت فى رهبة بعض الناس من هذا النوع من المحطات، مما أدى إلى تراجع الدول عن الاستمرار فى برنامجها النووى أو وقف استخدام الشغال منها.
منذ بداية السبعينات، عندما بدأت منظمة السلام الأخضر المناهضة للطاقة النووية فى الضغط على الأوتار النفسية للناس، وأصبحت أحد الأسباب الرئيسية فى بث ثقافة الخوف بين قيادات الدول، فقد أدى ذلك إلى اقتناع قادة إيطاليا وألمانيا فى التخلص التدريجى من المحطات النووية. إيطاليا طبقت سياسة التخلص التدريجى، وتم إيقاف تشغيل المحطات النووية التى لديها وعددهم 4. المانيا بدأت أيضا فى تطبيق سياسة التخلص التدريجى، وتم إيقاف 22 محطة نووية تدريجيا، وأصبح لديها الآن 7 محطات نووية فى الخدمة، ومن المقرر إيقاف تشغيلهما عام 2022.
وفى قراءة سريعة لمستوى الجرعات الإشعاعية التى يتعرض لها الإنسان وهى موجودة فى الطبيعة، أو نتيجة الممارسات المعتادة، نجد أنها على النحو التالى :
من الطبيعة المحيطة بنا يتعرض فيها الإنسان لجرعة إشعاعية تصل إلى 240 مللى ريم فى العام.
التشخيص الطبى بالأشعة يعرض الإنسان لجرعة إشعاعية مقدارها 40 مللى ريم فى المرة الواحدة.
الطعام والشراب الذى يتناوله الإنسان يعرضه لجرعة مقدارها 30 مللى ريم فى العام.
علماً بأن الجرعة الإشعاعية التى تسبب السرطان مقدارها 10 آلاف مللى ريم، وهو ما لم يحدث بسبب المحطات النووية سوى مرة واحدة فى حادثة (تشرنوبيل) فى أوكرانيا عام 1986، والتى تسببت فى وفاة 32 شخصا ما بين ليلة الحادثة والأيام التى تلتها، ووفاة 78 شخصا بسبب السرطان على مدى 20 سنة من تاريخ وقوع الحادث.
فإذا تطرقنا للحوادث النووية الكبيرة التى وقعت منذ إنشاء البرامج النووية واستخدامها فى توليد الكهرباء، فإنها لم تزد على ثلاث حوادث فقط هى كالتالى :
أولا، حادثة محطة (ثرى مايل آيلاند) بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1979.
ثانيا، حادثة محطة (تشرنوبيل) فى أوكرانيا عام 1986.
ثالثا، حادثة محطة (فوكوشيما)باليابان عام 2011.
علما بأن الحادثتين المشار اليهما فى أولاً، وثالثاً لم يتسببا فى وفاة أى أحد بسبب الإشعاع.
فإذا ما قارنا الخسائر المترتبة على هذه الحوادث بالخسائر التى تحدث للإنسان بسبب الممارسات اليومية أو نتيجة بعض الظواهر الطبيعة نجد الآتى :
فى نفس عام كارثة (تشرنوبيل) بأوكرانيا عام 1986 مات 1763 شخصا نتيجة حوادث الطائرات المدنية، فى حين أن إجمالى من توفى جراء الحادث بسبب الإشعاع لم يتعد 110 شخصا على مدار عشرين عاما.
فى نفس عام حادثة محطة (فوكوشيما) باليابان عام 2011 والتى لم تتسبب فى وفاة أى أحد، توفى 828 شخصاً نتيجة حوادث الطائرات المدنية.
فى نفس عام حادثة (ثرى مايل آيلاند) بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1979، توفى 2515 شخصاً نتيجة حوادث الطائرات المدنية، فى حين أن هذا الحادث لم يتسبب فى وفاة أحد على الاطلاق بسبب الاشعاع.
فى عام 1975 إنهار سد (بانكياو) فى الصين، وتسبب فى مقتل 26 ألف شخص نتيجة الفيضانات، و 145 ألف شخص نتيجة المجاعة والأوبئة التى أصابت المواطنين فى هذه المنطقة بخلاف تشريد 11 مليون شخص.
فى عام 2004 تسبب الزلزال والسونامى فى المحيط الهندى فى وفاة 300 ألف شخص، وتكبدت إندونيسيا أعلى نسبة من الخسائر فى الممتلكات والضحايا.
وتعد هذه الكارثة من أكبر الكوارث التى تعرضت لها البشرية.
ومن هنا يمكننا التقرير بأن المحطات النووية آمنة ونظيفة ولا تمثل تهديداً للبشرية، بخلاف السعر التنافسى للطاقة الكهربائية المتولدة من المحطات النووية مقارناً بما يتولد من محطات الفحم والغاز.
ومن ثمَّ نخلص إلى أن الرهبة من استخدام الطاقة النووية فى غير محلها.